كلمة العدد

 

 

 

 

أيّ الإرهابيين أكبر وأعرق ؟!

 

 

 

 

 

في نحو الساعة الواحدة من الليلة المُتَخَلِّلَة بين الأحد والاثنين: 1-2/مايو 2011م (26-27/ جمادى الأولى 1432هـ) اغتالت – كما فيما تزعم أمريكا وفيما أعلنت عبر وسائلها الإعلاميّة – قوات الكوماندوز الأمريكية الإرهابيَّ الأكبر عندها السيّد أسامة بن لادن في مبنى سكنيّ في مدينة «أيبت آباد» في باكستان، وقد طَرِبَ الأمريكيّون فورَ استماعهم لهذا البنأ الذي كان عظيمًا عندهم بكل المقاييس وأعلنوا عن فرحهم على طريقتهم بتبادل زجاجات الخمور وصبّهم بعضهم على بعض في رقصات مجنونة كانت تعبيرًا عن ثقافتهم الفاجرة.

     لقد أَشْهَرتْ أمريكا أسامة بن لادن أكبر إرهابي في العالم وأساءت سمعتَه في الدنيا كلها، وعملت بكل طريقة متاحة على تكريهه وتقبيحه إلى الناس أجمعين، ونمت إليه جميع الذنوب التي يمكن أن يرتكبها أي مذنب منقطع النظير في أرض الله الواسعة، وأنفقت ملايين الدولارات في التوصّل إليه والعثور عليه وإلقاء القبض عليه حيًّا أو ميتًا، و رصدت أكبر جائزة نقدية لمن يهدىها إليه أو يحضره إليها حيًّا أو ميتًا. وفي سبيل ذلك قتلت مئات الآلاف من المسلمين الأبرياء في كل من أفغانستان والعراق وباكستان وعدد من البلاد الإسلاميّة وغير الإسلامية، وعذّبت مئات الآلاف منهم دونما ذنب تعذيبًا تقشعر جلود الأحياء بمجرد تصوره، وأقامت للتعذيب معتقلات مزودة بكل نوع من آليات التعذيب الوحشي لم يعرفها فرعون موسى ولا أي من فراعنة العالم البشري منذ أن وُجِدَت الخليقة، وخَرَّبت – ولا تزال – كلاًّ من أفغانستان والعراق وباكستان عن آخرها، بنية تحتية، وثقافيًا وتاريخيًّا، وحضاريًّا وأرضيًّا، وجويًّا وبيئيًّا، بشكل لا يمكن تلافيه بأي حيلة أو بأيّ ثمن وبعد مرور أيّ وقت طويل.

     وداست لذلك سيادة كثير من البلاد الإسلامية ضاربة عرضَ الحائط أوامرَ الأمم المتحدة، والقوانين الدوليّة، والأعراف العالميّة، والمطالب الإنسانيّة، مجنونة بقوتها العسكريّة، وتقدمها التكنولوجي، وتفوّقها العلمي، وكونها القوة العظمى الوحيدة في العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.

     الصهيونيةُ العالميّةُ المُدَعَّمَة بالصليبية الحاقدة قامت بتفجير مبنى التجارة العالميّ في أمريكا، كما أَكَّدَ ذلك عدد من الخبراء العليمين بأوضاع العالم والمحلّلين السياسيين والمعلقين على الأنباء العالميّة، في ضوء دلائل و وثائق لاتقبل الإنكارَ، وذلك لكي تستعجل تحقيق ما تريد تحقيقه من المصالح الصهيونية الصليبية في العالمين العربي والإسلامي.

*  *  *

     وصدورًا عن المُخَطَّط الصهيوني الصليبي حَمَّلَت أمريكا مسؤوليةَ هذا التفجير أسامةَ بن لادن ومنظمته المزعومة «القاعدة» وأعلنت أنها ستخوض «حربًا صليبية» ضدّه غير تقليديّة تستعمل فيها الآلات الحربيّة التقليدية وغير التقليدية التي لم يعرفها العالم من ذي قبل وإنما سيعرفها أول مرة بعد ما تجربها هي – أمريكا – في هذه الحرب التي هي بصدد خوضها.

     ولكي تكسب الشرعيّة الدوليّة، دعت جميعَ دول الغرب لكي تتكاتف معها في هذه الحرب غير التقليدية التي سَمَّتها «الحرب على الإرهاب» مُوهِمَةً لها جميعًا أن الخطر الإرهابي القاعدي الأسامة بن لادني يُهَدِّدها كلَّها.

     وقد صَرَّح الرئيس الأمريكي الصليبي من أخمص قدميه إلى قمة رأسه «بوش الابن» أن كل من لايقف بجانب أمريكا في هذه الحرب غير التقليدية يُعْتَبَر أنه يقف بجانب أسامة بن لادن، وبجانب القاعدة، وبجانب الإرهاب، وبجانب جميع الإرهابيين في العالم، أي أنه ليس هناك مجال للحياد واللا انحياز، واتخاذ موقف عادل.

     وبما أنّ الغرب منذ القدم معجونة طينتُه بالعداء للإسلام والمسلمين، فلبت الدول الغربية كلها ولاسيما التي لها ثقل سياسي مثل بريطانيا وغيرها دعوةَ أمريكا لمساندتها العملية في هذه الحرب.

     وإن التبس الأمر على بعض القادة والحكام المسلمين الذين هم عبيد مأجورون لأمريكا والغرب، فظنوا «الحرب على الإرهاب» بمعناها الظاهر، فإن الشعوب الإسلامية في العالم كله دونما استثناء رأتها منذ اليوم الأوّل في مرآتها الصحيحة، وعلمت أنها في الواقع الحرب الصليبية على الإسلام بنحو أشمل وشكل غير تقليدي. وإن ما صنعته أمريكا بتعاون من الغرب مع الإسلام والمسلمين على مدى هذه السنين أكّد أنها خاضت وتخوض حربًا صليبية ضدّ الإسلام والمسلمين تستهدف امتصاص خيرات العالمين الإسلامي والعربي، والسيطرة على مصادر ثرواتها، إلى جانب تقتيل المسلمين وإبادتهم الجماعيّة، وتخريب البلاد الإسلاميّة من كل الوجوه، وإقامة قواعد عسكرية أمريكية غربية صهيونية صليبية ومراكز تجارية فيها في فرض استعمار جديد (New Colonialism) عليها لمدى طويل.

     وقد كانت هذه الخطوة الأخيرة: خوض «الحرب غير التقليدية على الإرهاب» أي الحرب الصليبية الجديدة على الإسلام والمسلمين، مما زاد الطين بلة فيما يتصل بالكراهية الشديدة والسخط العارم ضد أمريكا من قبل الشعوب الإسلاميّة التي كانت تستشيط غضبًا عليها من ذي قبل، من أجل وقوفها الفاضح السافر بجانب الدولة الصهيونية، وعملها القوي الدائم على إضفاء الشرعيّة على جميع جرائمها الوحشيّة ضدّ الشعب الفلسطيني وفي شأن اغتصاب الأرض الفلسطينية وتهويد الأقصى، وتشريد أصحاب الدار الفلسطينيين، وتقتيليهم ليلَ نهارَ.

*  *  *

     إن أسامة بن لادن كان رمزًا لهذا السخط العارم والكراهية اللامحدودة التي تتنامى مع الأيام ضدّ أمريكا مع عمليّات التصعيد الأمريكيّة المتصلة، مقابل المواقف الإجراميّة الغاشمة التي تقفها هي – أمريكا – من العالمين العربي والإسلامي ومن الإسلام والمسلمين.

     وفي الوقت الذي اعتبرت أمريكا أسامة بن لادن أكبر إرهابيّ في العالم، فإن الشعوب العربيّة الإسلاميّة كلها دونما استثناء تعتبرها – أمريكا – أكبر إرهابيّة، وتؤمن بأنها هي التي أنتجت الإرهاب، وصَدَّرته، وأقامت مشاتله، وتعهدت شتلاته بالسقي والريّ والتسميد، ثم زرعتها في كل مكان في العالم، وحَوَّلتها أشجارًا باسقة قويّة السيقان، كثيرة الأغصان وعلى العالم الإنساني أن يحكم حكمًا قاطعًا عادلاً: أيّ الإرهابيين أكبر وأعرق وأشد أصالة: أمريكا المجنونة بقوتها العسكريّة أو أسامة بن لادن الذي اتخذت منه شخصيّة إجراميّة أسطوريّة، وقد كان هو نفسه رجلاً  مجاهدًا جهادًا نزيهًا مقدسًا لدى كل من أمريكا والقادة والساسة المسلمين – الذين كانوا قد عادوا أخيرًا يرددون مقالة أمريكا ويعتقدون عقيدته في اعتباره أكبر إرهابيّ يجب ملاحقته ومحاربته في كل العالم – كان مجاهدًا عندما خاض الحربَ ضدّ الاتحاد السوفياتيّ في أفغانستان؛ ولكنه عاد إرهابيًّا أكبر عندما انقلب على أمريكا من أجل مواقفها العدوانية الصليبية الصهيونية ضدّ الإسلام والمسلمين. إني لا أودّ في هذه السطور أن أنصب نفسي مدافعًا عن أسامة بن لادن وأسلوب العمل الذي أملاه عليه غيرته الإسلاميّة ونخوته العربية واختلف معه في هذا الأسلوب كثير من الناس كما اختلفنا معه فيه، لأنّه لئن أخاف أمريكا وأقضّ مضجعها، فإنه – أسلوب العمل هذا – ألحق بالإسلام والمسلمين الشيء الكثير من الأضرار، وزرع كثيرًا من العوائق في طريق المدّ الإسلاميّ، لكننا لم نختلف معه ولن نختلف ولن يختلف أي من المسلمين في إخلاصه وصدق نيّته وعزيمته الإسلاميّة وحميته الدينية التي كان يفوقنا فيه بالتأكيد، ولن يختلف أحد من المسلمين أنه كان يُمَثِّل تحدّيًا صارخًا لجبروت أمريكا وكبريائها الصليبية الصهيونيّة، وعدوانها الواضح ضدّ الإسلام والمسلمين، الذي لاتزال سلسلته متصلة.

     وفي الوقت الذي حمَّلته أمريكا – دونما دليل كان واجبًا عليها عرضه أمام العالم – مسؤولية تفجير مبنى التجارة العالمي، وموت نحو ثلاثة آلاف نسمة تحت أنقاضه، فإن الشعوب الإسلاميّة كلها التي لايشذّ عنها أحد منها، تُحَمِّلها عن دليل حيّ ووثقائق صارخة مسؤوليةَ قتل الرئيس الباكستاني الأسبق الجنرال ضياء الحق رحمه الله تعالى رحمة واسعة واغتيال الملك المؤمن الصالح فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية رحمه الله تعالى رحمة الأبرار الصالحين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومباشرة قتل نحو مليون من المسلمين الأبرياء في كل من العراق وأفغانستان وباكستان إلى جانب تحويل مئات الآلاف منهم جرحى، مشلولين، مقطوعي الأعضاء، عالة على الناس، أيتامًا، أيامى، جائعين، عراة، مُشَرَّدين، لاجئين، ومن لايجدون من يرثي لحالهم، ويمسح دمعتهم، ويشاركهم آلامهم.. إلى جانب تدمير هذه البلاد الإسلامية كلها أرضًا وجوًّا، وإلى جانب قتل الصفوة المختارة من الشباب والقادة والزعماء والعلماء بالعلوم الطبيعيّة بمن فيهم الرئيس العراقي السابق صدام حسين وكثير من رجاله وأعضاء عائلته في إذلال أي إذلال وفي تحد صارخ للنخوة العربيّة والغيرة الدينية لدى كل المسلمين في العالم؛ حيث أُعْدِمَ الأخيرُ شنقًا في الصباح الباكر من يوم عيد الأضحى، وكأن أمريكا الصليبية – لعنها الله ودَمَّرَها عن آخرها بقدرته المطلقة التي لاتُغَالَب – لوّحت لجميعه القادة والساسة والزعماء المسلمين في العالمين العربي والإسلامي بأن ذلك هو مصيركم لئن خرجتم على أوامرنا، وشققتم عصاطاعتنا، مثل صدام حسين.

     ولئن انتقمت أمريكا من أسامة بن لادن باعتبارها إيّاه أكبر إرهابي، بقتل أكثر مليون من بني دينه وعقيدته، وقتله هو أخيرًا فيما تزعم وتوهم العالمَ كلّه، ولاتزال تقتل من تشاء من المسلمين الأبرياء في كل من باكستان وأفغانستان، فإنّ الشعوب العربية والإسلاميّة كلّها تودّ وتعزم أن تنتقم من أمريكا، وأن تجزيها بالمثل، بل تودّ أن تكيل لها الصاعَ صاعين؛ ولكنها لاتقدر في وضعها الحالي المتمثل في العجز العسكري والضعف التكنولوجي، والتخلف العلميّ والاقتصادي على الانتقام منها؛ ولكن الجيل الحاضر يوصى الأجيالَ القادمة بأن تنتقم منها انتقامًا تلمس آثاره في قرارة ضميرها. وتلك سنّة الله في الأرض؛ حيث إن الله يداول الأيام بين الناس، ويدفع الناسَ بعضهم ببعض لئلا تفسد الأرض على أهلها. المسلمون اليوم ضعفاء عجزة متخلفون عسكريًّا واقتصاديًّا وعلميًّا؛ ولكن الحال هذه لن تدوم، والمؤشرات كلها تدلّ على أن المستقبل للإسلام وحده وأنه – الإسلام – قادم بقوته كلّها لامحالَة، وأنه سينتصر وسيغلب وسيظهر مهما كره الكافرون والصليبيون والصهاينة.

*  *  *

     هذا، وإن كثيرًا من المحللين والمعلقين العالميين واثقون بأن إعلان أمريكا بقبل أسامة بن لادن مسرحيّة ملفقة لكسب ماتودّ كسبه من المصالح، وأنه قد مات من ذي قبل لأن أمريكا سبق أن كانت قد اعلنت أنها قتلته، أوهو حيّ مُعْتَقَلٌ بيد أمريكا، وأنها ستقتله بعدما يستطلعه الأسرار التي تودّ انتزاعها منه، في الوقت الذي تراه مناسبًا لقتله.

     كما أن هناك آراء تقول أن أمريكا تسلّمت أسامة من باكستان حيًّا، ضمن اتفاقية بينها وبين باكستان، كما أن هناك آراء تقول: إن أمريكا إنما أعلنت اغتيالَ أسامة في هذه الفترة من الوقت لأن رئيسها «أوباما» كان قد فقد الشيء الكثير من شعبيته، فحاولت من خلال الإعلان بقتلها رفع شعبيته المنهارة، حتى يتاح له الفوز في الانتخابات الرئاسيّة القادمة.

     وإذا كانت أمريكا قتلت أسامة فعلاً، كما تزعم هي، فلماذا تسارعت إلى قذف جثته في البحر، متعللة بأن دفن جثته في مكان من البر، كان من شأنه أن يُحَوِّل قبره مزارًا كبيرًا لعدد لايحصى من المسلمين، وأن عرض جثته على الشاشة التلفازيّة – كما يطلب العالم – كان من شأنه أن يثير السخط العامّ لدى المسلمين، لأن جثته كانت قد تشوهت بنحو كان ليثير غضب المسلمين عامّة، ويشكّل ذلك خطرًا آخر أكيدًا على المصالح الأمريكية وعلى سلامة العالم.

     وذلك بدوره يثير تساؤلات عريضة وشكوكاً كثيرة، ليس بوسع أمريكا أن ترفعها؛ لأن أسامة بن لادن مهما كان أسوأ مجرم كما تزعم هي، فإنه كان من الواجب عليها ان تبقي على حياتها، ولا تغتاله حتى تتيح له أن يمثل لدى المحاكم المفتوحة لديها أو لدى المحكمة العالميّة وتتم محاكمته في ضوء الدستور العالمي والعرف الدوليّ ويحق له أن يدافع عن نفسه، ويبرئ ساحته في ضوء ما لديه من دلائل البراءة وعدم التورطّ في جرائم تفجير مبنى التجارة العالمي والجرائم الكبرى الأخرى التي تتهمه بها أمريكا من عندها ولا تؤمن بذلك الدنيا وأهلها.

*  *  *

     إن العدوانات الصارخة التي ارتكبت وترتكبها أمريكا في حق الإنسان العربي المسلم في العالم كلّه دونما مبالاة بأي دستور إنساني، كان أسامة بن لادن رمزًا للاحتجاج الصارخ ضدّها والعمل لحد مستطاع على مقاومتها. ومهما اختلفنا معه في أسلوب العمل، فلن نختلف معه في الهدف والمصير. وستظل رسالته حيّة مات أو بقي حيًّا. والعداوة بين أمريكا وبين المسلمين ستبقى قائمة، إذا لم تنتهِ عن موقفها العدواني الصليبي تجاه الإسلام والمسلمين، وموقفها الإجرامي المؤيد تأييدًا علنيًّا لجرائم الصهاينة في فلسطين وتجاه الفلسطينيين.

(تحريرًا في الساعة 8 من صباح يوم الخميس: 8/جمادى الأخرى 1432هـ = 12/مايو2011م)

نور عالم خليل الأميني

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رجب  1432هـ = يونيو  2011م ، العدد : 7 ، السنة : 35